
بقلم: أمينة أوسعيد
قصدت صالون التجميل على غير عادتي، تدفعني رغبتي في الحصول على “لوك جديد”، واستجابة لنصيحة صديقتي المقربة، أن التغيير يبدأ من المظهر الخارجي، لينعكس إيجابا على الروح.
لكني وجدت الصالون مرتعا خصبا لاصطياد مواضيع أسالت لعاب قلمي. ثرثرة السيدات اللواتي اصطففن على الكراسي، ينتظرن دورهن، شدت انتباهي، وجرفت سيول الأسئلة بقوة نحو رأسي. اسْتَلَمَتْ دفة الحوار سيدة جميلة، أنيقة، تروي قصتها الدرامية بطريقة ساخرة، لتعلو الضحكات، بينما كنت أحس أن قلبها يبكي عكس شفاهها التي تبتسم. متزوجة من رجل ثري، رأت فيه المنقذ لها من حياة الفقر والهشاشة التي تعيشها رفقة عائلتها. تسكن في فيلا فخمة، ليست هي سيدتها، بل خادمة لدى زوجها وأبنائها الثلاثة. ذل وقسوة وسوء معاملة، لكنها، رغم ذلك، صابرة لأجل أطفالها كما قالت، ولو أني أظنأنها تعودت حياة الترف ولاتقوى قدماها على النزول إلى درج الفقر مرة أخرى. سألتها: كيف لها وسط هذا الكم الهائل من المشاكل أن تقصد صالون التجميل؟!. لم تكن رغبتها هي قط، بل بند آخر من بنود الاحتكار الذي وقعته مع زوجها: أن تستقبله دوما في أبهى حلة، وتحافظ على رشاقتها، وليس مسموحا لها بكيلو واحد زيادة في وزنها.. فعلا “كَثْرَة الهَمْ كتَضَّحْك”.
بعد وضعها نقطة النهاية لقصتها، سحبت منها أخرى بساط الحديث، أتت تخفي ملامح الحزن التي أكلت وجهها، بمساحيق التجميل، لتحضر زفاف إحدى قريباتها.. راحت تصف معاناتها مع زوجها اللامسؤول، يوصلها في الرابعة صباحا إلى محطة انتظارها لحافلة المستخدمين، حيث تعمل في شركة “للكبلاج”، ثم يعود هو إلى البيت لينعم بدفئ “الملاية”، ويتوسد ضميره الميت، وعندما تقبض راتبها الشهري يأخذ نصفه، كأنه هو من سال عرق جبينه للحصول عليه. ثم لا يكتفي بهذا، بل يعنفها جسديا إن هي قصّرت في واجباتها، هي أيضا صابرة لأن لديها طفلين، وكبدها لا يطاوعها للتخلي عنهما أو العودة لبيت أهلها تحمل كل واحد في يد. فهي تفضل “ظل راجل” يحميها من لسان المجتمع السليط، “المُهِمْ يْحَطْ سْبَّاطُو في الباب”.
انتهت وصلة النكد على إيقاع قهقهاتهن اللامبالية، وضع تكيفن معه، يتجرعن كؤوس الخيبة والألم في صمت، جروح لا تفتح أمام الملأ، لكنها تنبش في صالونات التجميل بطريقة هزلية، حتى يستطعن استساغتها بروح رياضية.. وعوض الجلوس على طاولة النقاش مع الشريك، يأكل كل طرف لحم الآخر في مجلس من المجالس. وينتهي البوح في الصالون دائما بنصيحة واحدة: الصبر…
“الصبر” حيلة العاجز، وفي بعض المواقف نحتاج إلى الشجاعة عوض الصبر لتوقيع النهاية المناسبة. بيوت عدة تقوم على الصبر، لكنها في النهاية تهوي عند باب قاضي الأسرة. وعلاقات تتكسر أجنحتها المثقلة بالأطفال، بعد نفاذ الصبر، صبر سلبي يقترن بضعف صاحبه.
تتعدد القصص، والمعاناة واحدة، صحيح أن الصبر مسكن يصلح للعديد من الأمراض التي تصيب العلاقات الزوجية، لكن مفعوله قصير المدى، وبانقضائه تنقشع حقيقة الأشياء من حولنا، فيكون الأطفال ذريعة بغيضة لتحمل وضع مزري، وفي النهاية وحدهم الأطفال الذين يدفعون الثمن غاليا من نفسيتهم…